الأربعاء، فبراير 24، 2010

الجمهورية الفرنسية والحجاب

 

Highslide JS

كتب: أ.د.زينب عبدالعزيز

07/03/1431 الموافق 20/02/2010

الجمهورية الفرنسية والحجاب

(تلخيص الكتاب)

بقلم / عمر مازرى ـ وزينب عبد العزيز

يقع الكتاب في أربعمائة صفحة ويتكون من تمهيد ومقدمة وواحد وعشرين فصلا متفاوتي الطول وخاتمة ، يليها عدة ملاحق تتضمن استطلاعا للرأي حول الحجاب ، وبعض الآراء والتعليقات التي قيلت حوله ، وبعض الصور التاريخية والأثرية التي تثبت أن الحجاب وارد كتشريع أخلاقي في جميع الأديان والمجتمعات ، وتنتهي الملاحق بمشروع القرار البرلماني توطئة لسن قانون خلال شهر مارس القادم لتحريم ارتداء النقاب رغم مخالفته القانون.

ويتناول التمهيد الحملة الأولى لتحريم الحجاب في فرنسا عام 2003 بقيادة جاك شيراك ، الرئيس الفرنسي الأسبق ، وما يرمي إليه هذا التمهيد هو توضيح أن الحملة الحالية لاقتلاع النقاب تتبع نفس الخطوات السابقة حتى وإن اختلفت الأسماء ، تماما مثلما يحدث في الفاتيكان حينما يتم وضع تخطيط ما ثم يتوارث الباباوات عملية تنفيذه .. ففي 13/1/2010 خاطب السيد ساركوزى ، الرئيس الحالي لفرنسا، مؤسساته التشريعية والتنفيذية معربا عن أمانيه في أن يتولى البرلمان الفرنسي سن قرارا بتحريم النقاب ليتم تحويله إلى قانون فيما بعد ، شريطة أن يكون " قرارا صريحا وبلا مواربة" ثم واصل قائلا : "ويجب بعد ذلك استخلاص النتائج من هذا القرار من وجهة نظر نص قانون يتمشى مع الموقف" ، وذلك " لأن النقاب غير مرحب به في فرنسا لأنه يناقض قيمنا".

وقد تمادى ساركوزي أكثر من الرئيس السابق موضحا : " أن يكون ذلك بمثابة حل يسمح بالحصول على أكبر عدد من الأصوات".

وهو نفس الموقف الذي أعرب عنه رئيس وزراءه في ديسمبر الماضي حين أعلن عن ضرورة صياغة قانونا بهذا الصدد ، وتوالت المقالات والملفات واللقاءات الرسمية بصورة تتسم باللامعقولية والتحيّز لمنع النقاب مثلما تم منع الحجاب "في مواجهة تصاعد الأصولية الإسلامية" كما يزعمون ، لذلك كان لا بد من توضيح وضع الحجاب في الرسالات التوحيدية الثلاث :

إن الحجاب الإسلامي ليس «علامة دينية مجاهرة» ولا فريضة عبادية أودينية كما يزعمون لاستبعاده .. إنه فريضة أخلاقية, متعلقة بحياء المرأة وحشمة مظهرها ، ومنصوص عليه في الديانات التوحيدية الثلاث:

العهد القديم: يقول يهوا عن بنات صهيون المتشامخات: « ينزع الرب في ذلك اليوم زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب والسلاسل والمناطق وحناجر الشمامات والإحراز والخواتم وخزائم الأنف والثياب المزخرفة والعطف والأردية والأكياس والمرائي والقمصان والعمائم والأزر» ( إشعياء 3: 18-23).

« ورفعت رفقة عينيها فرأت إسحاق فنزلت عن الجمل وقالت للعبد:من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا ? فقال العبد: هو سيدي فأخذت البرقع وتغطت» (التكوين 24: 64- 65).

« فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلفعت وجلست (...)ثم قامت ومضت وخلعت عنها برقعها ولبست ثياب ترملها» (قصة يهوذا وتامار, التكوين 38: 14 -19      

ومن الواضح أن البراقع والعصائب والعمائم كانت تستخدم لتغطية الرأس وهي عادة موجودة في معظم الحضارات, وأي يهودي ملتزم بتعاليم دينه في يومنا هذا, يحق له تطليق زوجته إذا ما خرجت من المنزل عارية الرأس.

العهد الجديد: يقول القديس بولس: « إذالمرأة إن كانت لا تتغطي فليقص شعرها ، وإن كان قبيحا بالمرأة أن تقص أو تحلق فلتتغط» (الرسالة الأولي إلي أهل كورنثوس 11:6).

وحتى مطلع القرن العشرين, كان خروج المرأة عارية الرأس يعد سُبّة, في فرنسا, أو على الأقل كان يعد خروجا علي التقاليد والأعراف (راجع قاموس روبير الكبير)

القرآن الكريم: نطالع فيه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

وانطلاقا من واقع أن الحجاب شائع ومستخدم بالفعل في الرسالتين التوحيديتين السابقتين ، فإن الإسلام لم يقم إلا بتحديد تغطية الرقبة وفتحة الصدر ، أي ما معناه مزيدًا من الوقار, مزيدًا من الحشمة, وعدم الاستهتار أو التبرج .

وإذا ما كانت الفرنسيات المسيحيات قد ابتعدن عن تعاليم دينهن, فذلك لا يعني أن يتم فرض نفس التصرف علي الفرنسيات المسلمات, خاصة وأن الاستثناء وارد الاستخدام ،ففي السابع من شهر مايو 2003 نشرت مجلة لوكانار أنشينيه (أي البطة المكبلة بالأصفاد) أنه تم رفع حظر « ضرورة رفع الحجاب» في صور البطاقات الشخصية بالنسبة للراهبة أدال برتا, ونفس الاستثناء ممنوح - في المجال الدبلوماسي- للمسلمات اللائي يمثلن بلدانهن في فرنسا ، والحوار العادل لا يقر مبدأ الكيل بمكيالين.

وكان السيد ساركوزى قد أعرب أيام زيارة الرئيس أوباما لفرنسا في شهر يونيو الماضي قائلا بوضوح : "إن النقاب غير مرحب به في أراضي الجمهورية الفرنسية" وبعد ذلك بخمسة أشهر أضاف "إن فرنسا بلد لا مكان فيه للنقاب ولا لاستعباد المرأة" وهى عبارة تستدعى التساؤل حول وضع المرأة الفرنسية في كافة الميادين الانفلاتية المشهورة بها، بينما الإسلام يحرّم الاتجار بالجسد بشتى أنواعه ، ويفرض الحياء في التعامل وفى المساواة بين الرجل والمرأة فيما عدا الميراث والشهادة ، وهذان الاستثناءان مشروح سببهما بآيات واضحة.

فالميراث في الإسلام يتضمن 32 حالة للإرث ، لا ترث فيها المرأة فقط نصف نصيب الرجل ، وإنما أحيانا تتساوى معه أو ترث أكثر منه ، وأحيانا هي ترث وهو لا يحق له الميراث ، وذلك وفقا لحالة النسب في هذا الميراث، ففي الشرع الإسلامي تكون المرأة عادة تحت المسئولية الشرعية للرجل سواء أكان الأب ، الأخ ، الزوج ، الابن ، العم أو الخال ، وهو ما يغفله المستشرقون أو من يقومون بالتعريف بالإسلام من رجال الكنيسة ، والنصيب الذي تحصل عليه المرأة ليست ملزمة بتقديم أية بيانات عنه ، ويمكنها التصرف فيه في أعمال الخير كما تشاء.

فالحجاب فرض أخلاقي وليس فرضا دينيا ولا يقع تحت مسمى "المظاهر الدينية الاستعراضية" التي حددها الرئيس الفرنسي ، وإنما هو احتشام في المظهر العام ، ويختلف تماما عن الفروض الدينية التي هي أركان الإسلام الخمسة، وإن عملية فرض تشريع يحتم على المسلمات الفرنسيات مخالفة أحكام دينهم يخالف قوانين الجمهورية الفرنسية كما يخالف قوانين حقوق الإنسان ، ويمس بقانون حرية التعليم الإجبارية في فرنسا ، كما يخل بمبدأ العلمانية الذي تتبعه الدولة بشعاراتها الثلاثة : الحرية والمساواة والإخاء ..

أما النقاب فقد اختلف المفسرون في تحديد قانونه ، والإجماع أنه مزيد من التطوع في الطاعة والالتزام.

وتتناول المقدمة مهزلة سن مثل هذا القانون المخالف للقانون ، وشغل أجهزة الدولة ومؤسساتها من أجل 367 نقابا في الجمهورية بأسرها، وذلك وفقا لإحصائية قامت بها جريدة لوموند وأكدها وزير الداخلية، فالوضع برمته ليس إلا تكرارا لنفس ما تم أيام منع الحجاب ومحاربة الأقليات المسلمة التي حطت رحالها أساسا في فرنسا نتيجة لاستعمار الجزائر واستجلاب أيادي عاملة رخيصة التكلفة والأجر لإعادة أعمار الغرب الصليبي خاصة بعد ويلات الحرب العالمية الثانية.

وحيث إن القرآن الكريم يحذرنا من المنافقين ويفسر لنا من هم المؤمنون ، فقد تناول الباحثان الرد على هذه الحملة بأسلوب يتفق مع ذلك المنظر الساخر لجمهورية تجند كافة أجهزتها ووسائل إعلامها لتنطلق في حرب صليبية جديدة ظاهرها محاربة قطعة نسيج ، أيا كان المسمى الذي يُطلق عليها ، حرب هي اللامعقول بعينه شكلا ، لكنها تندرج في الواقع في نطاق الحرب التي يشنها الفاتيكان ضد الإسلام وقراره تنصير العالم ، ذلك القرار الذي تقوم الدول الغربية المسيحية في التعاون على تنفيذه بصور مختلفة، فتزايد الخوف المعلن من الإسلام قد اتضحت معالمه مع هجمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومسألة منع تشييد المآذن ، ورفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي ، وخاصة في محاولة تصنيع "إسلام فرنسي" لإعادة تصديره للبلدان الإسلامية لكي تتبعه.

وفى خضم الصراع ضد الإسلام حاربوا رداء الحشمة واختلقوا قضية "الهوية الفرنسية" لاستبعاد المسلمين الذين عاونوا فرنسا في حربها ضد النازية وفى إعادة تشييدها وأعمارها بعد الحرب. وهكذا ترد فرنسا الجميل للمسلمين الذين جلبتهم من مستعمراتها ، أو إسهام المسلمين طوال عشرة قرون من الحضارة ، باستبعاد المنظر الذي يذكرها بالإسلام : المرأة المسلمة المحجبة !

وتتوالى الفصول في مساحات متفاوتة تتناسب مع لا معقولية الموضوع ، وتحت مسميات متنوعة للرمز والرموز والرمزية لتوضيح أن أهم ما رمت إليه الحملة الأولى على الحجاب كانت متعلقة أساساً بالمدارس، و كان المقصود منها حرمان الفتاة المسلمة المتمسكة بتعاليم دينها من التعليم ، لكي لا تحصل على شهادات تؤهلها إلى الوظيفة وإلى التدرج الوظيفي في الدولة والوصول إلى المناصب القيادية.

وقد عمل اللوبي الصهيوني بكل طاقته في هذه المعركة لأن الشباب المسلم تبنى القضية الفلسطينية ونظم المظاهرات السلمية التي تشهد بصحوة إسلامية وسياسية من أجل القضايا العادلة. وذلك لأن الاختلاف حول مسألة الحجاب تسمح بالسيطرة لمنع أية مظاهرات مساندة للقضية الفلسطينية والعراق وأفغانستان.

وأهم ما تكشف عنه هذه الحملة هو العداء المستحكم لكل ما يمت إلى الإسلام بصلة ومحاولة دهسه أو طمس معالمه من الساحة بعد أن يلصقوا به عبارة "إسلامي إرهابي" وهو ما تم بالنسبة للحجاب منذ بضعة سنوات و يدور الآن بالنسبة للنقاب والمآذن وغيرها.

واللافت للنظر أن أي قضية في المجتمع تحال للقضاء الذي يتناول الموضوع من كل جوانبه ويتم تثبيت الحكم أو تغييره وفقا لكافة الظروف مجتمعة. أما هنا في موضوع الحجاب والنقاب ، فقد تولت أجهزة الدولة الموضوع من جانب واحد ، هو وجهة نظرها هي ، لتفرضه على المجتمع بأسره وحرمان الفتيات المسلمات من التعليم بينما تقوم نفس هذه الدولة بتخفيف الأحكام على مرتكبي الجرائم بالبحث عن مخارج لهم في ثغرات القانون. الأمر الذي يكشف عن تعنت مسبق وعدم عدالة واضحة ، إذ لا يتم اتخاذ نفس الموقف مع من ترتدي الصليب الذي هو فعلا "علامة دينية مجاهرة" ، بمعنى أنه إشارة مباشرة للمسيحية ورمز ديني بحت ، إذ لا يمكن لغير المسيحية أن ترتديه.

كما لا يوجد أي منطق لهذا التعسف حيال طالبة تتسم بالحياء ، بينما تقوم الدولة بترك من يمارسن الاستعراض الجسدي والانفلات والعلاقات غير الشرعية على أنها حرية شخصية !!

كما لا يحق لأحد الصحافيين مثلا أن يقوم في أحد البرامج التليفزيونية باستجواب سيدة محجبة عن الغرض من ارتدائها الحجاب ، وعما تخفيه من وراء ذلك ، وكأنه أحد رجال البوليس ! فكل ذلك يندرج تحت بند الضغط الإعلامي على العقول ، وهذا الضغط مقصود به أساسا المرأة المسلمة في المجتمع الغربي وخاصة ذلك الشباب الواعد من الفتيات اللائي يجدن التحدث ويساهمن في الحياة السياسية والاجتماعية ، لأنهن بمثابة قوة مناضلة دفاعا عن الإسلام والمسلمين وعن القضية الفلسطينية ، فقطعة النسيج هذه ليست هي المقصودة وإنما الإسلام ودوره الفعال في الضواحي الفرنسية الذي بات مختلفا عن تلك الصورة العشوائية لشباب يلقى الحجارة ويشعل الحرائق.

إن شرع الله سبحانه وتعالى عدل واضح وهو ينزل بعقاب الاضمحلال والضياع بالأمم والشعوب والحضارات ما أن تبتعد عن شرعه أو تنجرف إلى عدم طاعته أو تمس بحقوق مخلوقاته التي خلقها حرة وعليها أن تعيش حرة لتواصل رسالتها كخليفة لله على الأرض ، والظلم والكفر البواح والغرور والانفلات الأخلاقي وعدم الاكتراث تعد العلامات الرئيسية المؤدية إلى اضمحلال هذه الحضارات وضياعها.

ولنا في القرآن الكريم مثلا في سورة الكهف ، في قصة رجلين يمتلك كل منهما حديقة ، إحداهما مثمرة منتجة والأخرى متواضعة ، وأجرم الثرى بنكرانه جميل صنع الله وعدم الاعتراف بفضله عليه ونسب لنفسه ثراء حديقته. ودار الحوار بين الرجلين ليكشف عن الفرق بين عدم الاكتراث بفضل الله وبين الإيمان الصادق. والحضارات لا تنتهي دوما بالكوارث الطبيعية ، وإنما قد تضيع بقلة إنتاجها وأزماتها الاجتماعية وقياداتها غير الحكيمة أو الفاسدة ، فيضيع رخاءها وتضيع مكانتها بل ووجودها.

والأمة التي تنساق نخبتها إلى ملذات الدنيا والتي يضيع شعبها في اللهو والكسل والابتعاد عن الدين والإيمان تفقد القدرة على قيادة الشعوب الأخرى ، إذ إن من أهم سمات الأمة المتحضرة هي حمل مشعل العدل والتعبير عن عرفانها بالجميل لكل ما أنعم الله به عليها ، أما حينما تصبح السلطة استبدادية فعليها أن تترك المكان لقيادة رشيدة عملا بتناوب الخير والشر ، فالمؤمن والكافر بنعم الله لا يمكنهما أن يبقيا معا أو أن يتجاورا دون أن يُؤذى المؤمن في إيمانه ، فالسلطة يمنحها الله للشعوب والأمم كمحنة لاختبارهم في الدفاع عن الحق والعدل وحقوق الكرامة الإنسانية.

إن حضارة الأندلس ، وفقا للقانون الإلهي لتعاقب الحضارات ، لم تفقد طابعها الإسلامي إلا بعد أن أعطت أوروبا كل معارفها الثقافية والعلمية ، وقد استطاع عصر النهضة في الغرب التعبير عن مواهبه على أنقاض الأندلس المسلمة التي ورث عنها الفنون والرياضيات والمؤسسات وعلوم الطب والفلك والشعر والاقتصاد والفلسفة والآداب ، وقام الغرب بإضفاء معالم التراث العربي الإسلامي بالتلاعب في رموزه وتحويل الأسماء العربية إلى اللاتينية التي استعار منها علومها وقام في نفس الوقت بنسبها إلى إيطاليا بأن أسند إليها عصر النهضة لإلغاء الصلة الإسبانية المسلمة التي تربطه بالعرب و المسلمين وليؤكد انتماءه للعالم اللاتيني متمثلا في روما ثم في الفاتيكان ، ويحتفظ التاريخ بهذه الحقائق إضافة إلى اضطهادهم للمسلمين والعرب والعمل على طردهم من إسبانيا وملاحقتهم.

وفى خضم هذه الأحداث المتواصلة لمطاردة الحجاب أو النقاب ، الذي هو في واقع الأمر ليس إلا استمرار لمحاولة اقتلاع الوجود الإسلامي ، فيجب على المرأة المسلمة أن تتمسك به أمام تلك الروح الاستعمارية ،ليس من قبيل التمسك بتعاليم دينها الأخلاقية فحسب ، وإنما للعمل على وقف من يتبارون لاقتلاع الإسلام ورموزه وقهر الفتيات وإجبارهن على خلعه لحرمانهن من التعليم. فالتلاعب بالرمز ومعاني الثياب وحشمة الحجاب لا يمثل خطرا فحسب وإنما هو بمثابة عنصرية واضطهاد.

وإذا كان القرآن الكريم ينص على أنه لا إكراه في الدين ، فكيف نسمح بأن يكون هناك إكراه مفروض على أحد الرموز الأخلاقية أو الاحتشام في الوقت الذي لا تمثل فيه أي مساس بالأمن العام والأخلاق العامة للدولة.

وقد أوضح الكاتبان كيف قامت فرنسا باسم "التعايش معا" الذي يحدد معالم الهوية الوطنية لتحصرها في "رمز مجاهر للإسلام" بدلا من أن تجعل منه رمزا عالميا للوقار والحشمة ومن أجل التعايش معا. ومع افتقارهم إلى مشروع حضاري تقوم وسائل الإعلام والنسق السياسي للدولة بالغرق في متاهة قطعة نسيج بدلا من النقاش حول القضايا الأساسية ومنها الحرية والتفاعلات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تؤدى إلى تكوين المجتمع الوطني والتفاعلات الشفافة بين أعضاء الأمة. وقد تعمد الكاتبان أن يكون الأسلوب ساخرا بقدر السخرية الكامنة في الموقف برمته ، متخذين من رمزية ألوان العلم الفرنسي مجالا لتوضيح الخلط الذي وقع فيه منتقدو مجاب الحشمة لتوضيح أن أطروحتهم ينقصها الأمانة والحياء !

وقد ازداد اللغط في الصحافة الفرنسية خاصة وتداخلت المعاني والرموز حتى بات المرء لا يدرك هل هي دولة تحارب الزى أم العلامات الدينية أم الدين نفسه ؟. بل لقد وصل الخلط إلى عدم التمييز بين الزى والدين وهل ارتداء الحجاب هو فرض ديني أم أخلاقي أو قهر من الزوج أم حرية شخصية ؟ هل هي حرب ضد حرية الضمير والعقيدة ، الذي هو أمر مقدس لديهم في العلمانية ، أم أنها ضد من يتهمن العلمانية بارتدائهن الحجاب ؟ ويتزايد الخلط الإعلامي .. وحيال هذا الخلط لا بد وأن نتساءل حول تلك الرغبة في السيطرة والإصرار عليها في مسيرة طويلة ممتدة هي المساس بمكانة المرأة المسلمة ووجودها في فرنسا ، وهنا لا بد من التساؤل : لماذا ترفض فرنسا التعددية الثقافية والدينية ؟ ولماذا تجبر الفتيات على خلع الحجاب وعلى إنكار تعاليم دينهم الأخلاقية وحرمانها من التعليم ؟

والحقيقة التي يصعب إنكارها والمتمثلة في تلك المحاولة الصريحة هي الرغبة في إزاحة الطابع الإسلامي لفتيات يقمن بمظاهرات لمساندة فلسطين المحتلة أو لانتقاد المعايير غير العادلة للدولة ، والشباب المسلم المقيم في فرنسا يعلم تماما أن مهمة التعليم هناك لا تقوم بتعليمهم القرآن والسنّة ، وإنما يقع ذلك على عاتق الأسرة وإمام المسجد ، كما يعلمون أن القانون الفرنسي يجعل من التعليم حقا لهم ، وأن مهمة المعلم ألا يرفت فتاة ترتدي الحجاب أو أن يقبل شابا يرتدى الطاقية اليهودية ، إن مهمته تعليمية تربوية إذ تقع عليه مسئولية أن يحبب الطلبة والطالبات حب العلم والمعرفة والتطلع إلى مزيد من التحصيل ؛ حتى يمكنهم خدمة الدولة والمجتمع الذي يعيشون فيه ، لذلك يتعيّن على وزير التعليم الذي أصدر قرار حرمان المحجبات أن يعيد نظر في هذا القرار العنصري .

فقد كان من الأصوب أن يتفق مع وزير الصحة ووزير الداخلية ليجد الحلول المناسبة واللازمة لحماية المجتمع الفرنسي من العنف والمخدرات والجرائم. لأن الفعل الرمزي حين يتحول إلى معركة ضد خصمٍ ما عليه أن يعيد نظره في كافة الرموز ويقارنها. فالمقارنة تعاون على عدم إلقاء الجيران بالحجارة حينما يكون مسكننا من زجاج.

كما نتوجه بلومنا إلى النخبة المسلمة في فرنسا التي آثرت الصمت أو التواطؤ إن لم تقم صراحة بإدانة الحجاب أو النقاب والمطالبة بخلعه.. إن الإسلام لا يبحث عن الانفصال والعزلة وإنما يهدف إلى الترابط والتواصل بين البشر ؛ لأن الإسلام دين متكامل البنيان ، يتناول الحياة في الدارين ، إنه رسالة متكاملة الجوانب والأركان ولا يمكن تقسيمها أو تزويرها أو تحريفها ، والقرآن الكريم شامل التعاليم ومتعدد المعاني بلا أي تناقض في تحديده لمختلف جوانب المجتمع والأسرة وحياة الفرد وعلاقته بربه.

إن كل معركة تقوم على الرموز تخفى وراءها صراع فكرى معيّن ، لأن الهدف هو الاستحواذ على الرمز والتلاعب به لفرض قراءة مختلفة عن مضمونه وعن ثقافته و يرمى إلى فرض وجهة النظر الواحدة المتحكمة ، والواضح أنه ما أن يتعلق الأمر بالإسلام حتى يفقد الغرب عقله ومقاييسه ، ولا يعد الموضوع يتعلق بالتعددية والمعايشة السلمية والأخوة ، وإنما إلى كراهية وعداء ، فالمساواة الحقيقية أو الواقعية تعني تقديم فرص متساوية بنفس الضمانات في الاستماع إلى المطالب أو الشكوى ، ونفس الحماية القانونية والقضائية والاجتماعية ، وبالتالي إيجاد السبيل إلى نفس الرغبة في الانتماء ونفس النتائج حيال نفس المجهود المبذول ، فلا يمكننا التحدث عن المساواة دون الاعتراف بحق الاختلاف وإلا ستتحول المساواة التي تفرضها الدولة إلى مساواة أفراد الشعب في شيء واحد وفكر واحد وبرنامج تعليمي واحد ، وهو ما يتناقض مع الحرية التي لا يمكنها تقبل أن تقحم الدولة نفسها في كل شيء حتى العقائد !

وبعد تناول مختلف الأوجه التي يثيرها الحجاب بأشكاله وأنواعه ، مروراً بمختلف المشاكل التي يثيرها برموزه ومسمياتها ، لتوضيح سخف الموقف المفتعل المثار حول رداء الحشمة أو حول ذلك الفرض الأخلاقي ، تتناول الخاتمة ذلك الإعلان الرسمي الذي ينص أو يطالب بسن قانون يمنع النقاب وتحديد غرامة قدرها 750 يورو لمن ترتديه ، وحرمانها من المساعدات الاجتماعية وفرض عقوبات تصل إلى السجن والحرمان من الجنسية الفرنسية ، بل لقد تمت مطالبة رؤساء المجلس الإسلامي " أن تكون لهم مواقفهم الحاسمة في منعه ، إذ يجب أن يتمشى الإسلام مع الجمهورية الفرنسية" ! الأمر الذي يذكرنا بكبير المبشرين القس زويمر الذي قال في مطلع القرن العشرين ، حينما رأى ثبات الإسلام ورسوخه في أعماق المسلمين ، أنه لن يقتلع الإسلام إلا أيدي مسلمة من الداخل.. وكل هذه العمليات الملتوية تتفادى صياغة نص صريح يحرمه القانون الدستوري وقانون حقوق الإنسان بل وقانون الإتحاد الأوروبي.

إلا أن الهدف من وراء ذلك هو تلك الرغبة الملحة في تغيير الإسلام وتغيير القرآن الكريم ، وذلك ليس بأيدي المسئولين المسيحيين وإنما بأيدي بعض المسلمين الذين يقبلون المساس بدينهم موالاة للدولة وانحياذاتها الصليبية ، وهو مطلب ليس بجديد فقد نادى به جاك بيرك صراحة من قبل في المقدمة التي ذيّل بها ترجمته لمعاني القرآن الكريم وكثيرون غيره ، وأخيرا طالب بها الأب هنرى بولاد ، مدير مدرسة العائلة المقدسة بالقاهرة ، في حديث مسجل يتم نشره على الإنترنت وموجه للحكومة الفرنسية يطالبها فيه بتغيير الدستور لمحاصرة الإسلام ، وفي نفس الوقت يطالب بتغيير الإسلام ليتمشى مع متطلبات العصر ، وإلا سنصل إلى مواجهة حتمية على حد زعمه.

وهذه المواجهة تقوم بها المؤسسات الفرنسية من خلال محاربتها الحجاب بدلا من أن تحمّلها اسم "حرب دينية" جديدة ، وقبل الرد على تسييس الحجاب أو النقاب تتناول الخاتمة قضية توضيح أن الحجاب لم يكن خاصا بالرسالات التوحيدية الثلاث ، وإنما هو موجود من قبلها ، إذ نطالع في قانون حامورابى أنه ينص على فرض الحجاب على المرأة المتزوجة احتراما لتمييزها عن الفتيات ، والحضارات الأكثر قربا منا كانت تلتزم به حياء وحشمة أيضا ، وذلك يعني أن القرآن الكريم لم يأت ببدعة مفزعة أو جديدة أو حتى أنها قاصرة على الإسلام ، بما أن الحجاب منصوص عليه في اليهودية وفى المسيحية وفيما قبلهما.

والقرآن الكريم لم يحدد زيا بعينه للمرأة وإنما نص على حدود له بألا يوضح معلم الجسد وألا يلتصق به وألا يشف. فالمرأة يمكنها أن تختار ما تشاء في حدود هذه التعاليم الثلاثة التي تصونها وتحافظ على مظهرها و كيانها في المجتمع. فلا يوجد ما تود الحكومة الفرنسية فرضه بقلب معنى الحشمة والاحتشام إلى عبارة "الزى الإسلامي الاستفزازي" لكي تحاربه ؛ بدليل أن الزى العربي يختلف عن الزى الجزائري الذي يختلف بدوره عن الزى الإيراني مثلا ، وكلها أزياء تعتمد على الحشمة والوقار وتتمشى مع البيئة التي هي فيها.

وحينما سألوا النبي عليه الصلاة والسلام عما يُسمح به أن يظهر من المرأة في الحج أشار قائلا : "الوجه والكفين". فتلك هي حدود الدين ، ومن تبغي التطوع بالمزيد في الطاعة وتغطى وجهها فلا يجب أن يكون ذلك سببا لقيام حرب لمحاصرة الإسلام والمسلمين.

وما يتعيّن على المسلمين وخاصة الأقليات المسلمة في أي دولة مسيحية أن تسعى لتكوين نخب تمثلها في تلك البلدان ، وأن تتناول مهامها وقضاياها وألا تسمح بتنازلات تمس الدين والعقيدة. إذ أن أكبر مشكلة تواجه الإسلام حاليا سواء في الغرب أو في بلدانه الأصلية هي تلك الفئة التي تسارع إلى موالاة الانحرافات السياسية وتقديم التنازلات على حساب الدين. كما يجب عليها عدم الانسياق في تيارات الحداثة وما بعدها زعما في التقرب أو في التحضر.

فالمشكلة الحقيقية في واقع الأمر هي أن الإسلام هو البديل الوحيد المنطقي والمتجانس ضد العولمة والاستبداد والتحريف الذي تم في الرسالتين السابقتين ، والقيادات الغربية بأنواعها تعرف ذلك جيدا.. جميعهم يعرفون ذلك إلا عامة المسلمين ، وخاصة ذلك العدد من المسلمين الذين يتنازلون عن دينهم وتعاليمه الواضحة تقربا وحبا في السلطة والمال حتى بات الإسلام والمسلمون يوصفون ويوصمون بالتخلف وبالفساد.

إن المشكلة ليست في الزى أو في قطعة نسيج أيا كانت وإنما في واقع المسلمين الذين ابتعدوا عن القيام بدورهم في الشهادة لله وفى تحمل مسئولية دور الخلفاء له في الأرض لأعمارها والمساهمة في الرقى الحضاري وفقا للتعاليم التي أنزلها المولى عز وجل ، والدفاع عن فلسطين وعن التحرر الوطني من السيطرة الغربية الصليبية والاستعمار المقنّع الذي يسعى سراً وعلانية لاقتلاع الإسلام ، كما ابتعدوا عن المساهمة الفعالة في تشييد الوطن والالتزام بتعاليم الدين للإسهام في بناء تاريخ الإنسانية تمسكا بالجوهر وليس جريا وراء المظاهر.

لقد أدنا الحملة المنسقة والمفتعلة في حقيقتها على الحجاب والنقاب لكل ما تخفيه وراءها من معارك حقيقية لا بد من الالتفات لها بصدق وصلابة دفاعا عن كياننا وعن الدين. فالهدف الحقيقي من وراء هذه الحملة المتلفعة بالحجاب والنقاب هو الوجود الإسلامي نفسه في الغرب ، ذلك الوجود الذي سبق لهم واقتلعوه أيام الأندلس وطردهم أو تقتيلهم للمسلمين ؛ ليتنا نفيق من تقاعسنا ونخرج من ذلك الجمود الذي تقوقعنا فيه جريا وراء الشكليات و التفاهات ونتمسك بجوهر الدين وتعاليمه دفاعا عنه فذلك هو ما سوف نُسأل عنه يوم الحساب.

والكتاب الذي يُعد بمثابة جولة موضوعية ساخرة من خلال لعبة ألوان الجمهورية الفرنسية يبدأ بعبارة للشاعر الفرنسي لامارتين يقول فيها : " إنني من لون أولئك الذين يتم اضطهادهم " .. وينتهي بعبارة : " أن القدرة على التمييز تسمح بأن نجعل من قطعة نسيج ناصعة ، أو من تصرّف أومن اقتراح لقانون أو من مجرد ورقة بيضاء ، على حد قول ميشيل سيريس ، أن تكون في آن واحد كل الألوان مجتمعة أو غياب الألوان. فكل الألوان مجتمعة يمكنها أن تعطى اللون الأسود الكالح ، أو أن تكون باقة متراصة من الألوان على باليتّة الفنان وجاهزة لأن تعبر بفرشاته المبدعة عن أجمل جدارية إنسانية واجتماعية ".  

المصدر : موقع التاريخ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق